المقهى في أخر الشارع

كانت الشمس تتوسط سماء خالية تماماً من السحب، مُلقيةً أشعتها الحارقة على الشارع شبه الخالي من المارة عندما خرج من بيته. كان لا يقصد مكاناً بعينه ولكنه أحس برغبة قوية في أن يتكلم مع إنسان أو أن يسمع صوتاً بشرياً حقيقياً وليس صوتاً إلكترونياً منبعثاً من سماعات الراديو والتلفاز في غرفته التي يسكن فيها وحيداً منذ سنوات. نظر إلى الشمس لهنيهة مفكراً في التراجع عن رغبته تلك، ولكنه عدل ياقة قميصه كأنه يشجع نفسه قبل الذهاب إلى ساحة معركة.

لم يطل بحثه كثيراً فلقد وقع بصره على المقهى الرابض في نهاية الشارع، فأومأ لنفسه بأنه أنسب مكان.

كانت الكراسي الخشبية قد رُصت بجوار الحائط وتحت مظلة ممتدة بطول واجهة المقهى، محتمية من شمس مايو المحتدمة. سحب كرسيا وارتمى عليه شاعراً بالندم على اختيار هذا التوقيت الخالي من الرواد. نظر إلى ساعته فوجدها تشير إلى الثانية ظهراً فاطمئن لاقتراب العصر وما قد يحمله من عائدين من وظائفهم أو حتى مدارسهم وجامعتهم.
جاء النادل حاملاً منضدة حديدية صغيرة وزجاجة مياه وكوب. وضعهم جواره ثم سئله ماذا يشرب، فطلب منه ليمونا مثلجا.

بعد ساعتين بدأت المقهى بالفعل في الازدحام كما توقع. أبهجه زحف ظل الجدار نحو نهر الشارع، وهبوب نسائم صيفية تعبث بقميصه وبقماش مظلة المقهى المتدلية فوقه.

أخرج أحد عمال المقهى طاولة كبيرة ثم أتبعها بتلفاز ضخم. وبدأ الرواد في التحلق بكراسيهم أمام التلفاز. كانت قناة رياضية تُقدم مباراة كرة قدم تبدو هامة على وشك البدء. هو لا يهوى كرة القدم ولا يشجعها ولكنه تلهف لسماع صياح جمهور المتحلقين حول التلفاز، بل إنه قد شطح بأحلامه فتخيل أن رواد المقهى يسألونه عن حدث في المباراة أثار جدلا بينهم: “سوف نسأل الأستاذ ما رأيه في هذا التدخل العنيف. أليست ضربة جزاء يا صديقي؟”. جعلته كلمة صديقي المتخيلة يبتسم ابتسامة عريضة أحمرت لها وجناته خجلاً عندما انتبه لنفسه. وعندما بدأت المباراة بدا له صياح المتفرجين كالموسيقى، خليط الأصوات كان مؤنساً لدرجة أن عينيه قد دمعتا قليلاً. بيد أن الألفاظ النابية التي صدرت من بعض الجمهور كانت تنذر بعراك وشيك. حتى هذا العراك تمناه، مستغفراً، فهو يمثل له حدثاً استثنائياً لم يجربه منذ فترة طويلة. ولكن المباراة انتهت دون عراك. وبدأ المتجمهرون حول التلفاز في توزيع الكراسي وتوسيع نطاق جلوسهم، شارعين في لعب الدومينو والطاولة والشطرنج.

كان بجواره كرسيان خاليان فاقترب أحد الرواد خطوات نحوه، أحس بالإثارة فأمسك ابتسامة عريضة أخرى بدأت في الطفو فوق وجهه ولكنه لم يستطع السيطرة على قلبه الذي أخذ في الخفقان السريع. أقترب الرجل منه أخيرا وسأله: “هل هناك من يجلس معك يا أستاذ؟”. مشيراً بأصبعه إلى أحد الكراسين. أجابه “لا. ليس معي أحد. يمكنك أخذ الكرسيين”. ابتسم له الرجل شاكراً وحمل الكرسيين إلى مكان غير بعيد حيث كان يجلس صديقان ويقف ثالث منتظراً حول طاولة وضعت عليها رقعة شطرنج.

“هل ستشرب شيئا آخر؟” كان النادل يوجه له السؤال بينما كان هو يحدق في الأصدقاء حول رقعة الشطرنج.

“نعم. أريد قهوة. واسأل الأساتذة هناك ماذا يشربون على حسابي”. أشار إلى الطاولة. ذهب النادل وأخبر (الأساتذة) فالتفت الرجل، الذي أخذ الكرسيين، مومأ بتحية ثم لوح له بأن ينضم إليهم..

ضحك يومها كالأطفال وهو يتابع نكات الأربعة، الذين يجهل أسماءهم، والذين لم يتبادلوا معه الحديث على الإطلاق لسبب هو يعلمه حق المعرفة. وهذا لم يضايقه البتة. فهو منذ أن مات، من ثلاثة أيام، لم يغادر غرفته إلا طيفاً، ولم يكتشف الجيران بعد موته حتى الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *