فاحت رائحة البخور في الردهة. رائحة قوية ذكرتني بأيام الجُمَع، قوية لدرجة أنها اقتحمت غرفتنا، أنا وأخي، وجعلتنا نسعل بشدة.
هرعنا إلى الخارج لنجد أمي، وقد حملت المبخرة، وأخذت تطوح بها في حركة دائرية فوق رأس أبي الجالس على الكرسي الخيزران. كان مُنكس الرأس، مُستسلمًا لتمتمات أمي. وعندما رأتنا أمي سددت لنا نظرات عاتبة، فطفقنا عائدين إلى الغرفة.
ساءت حالة أبي كثيرًا بعد إحالته للتعاقد. كان صولًا في أحد السجون العمومية طوال عمره تقريبًا. فحالما أنهى خدمته العسكرية حتى تم إلحاقه بهذا السجن. وطوال خمس وعشرون سنة وهو يعمل هناك. لم نرَ له أصدقاء، ولم نشاهده جالسًا على مقهى طوال حياتنا. من البيت إلى السجن ومن السجن إلى البيت كما يقولون. لم نعرف لماذا أحالوه للتقاعد، لم نسأله وهو لم يتكلم.
في اليوم التالي للتقاعد بدا سعيدًا. فلقد استيقظ مبكرا، كما اعتاد، نشيطًا مبتسمًا وكأنه وجد طريقة يقضي بها أيامه الباقية. ساعد أمي في المطبخ قليلاً، ثم دلف إلى الحمام وأخذ يُصلح ماسورة الحوض التالفة، ثم دخل غرفتنا واستبدل المصباح العاطل المُعلق في السقف.. ولكن هذا الحال لم يتكرر في اليوم التالي. فلقد استيقظ متجهمًا، فاتر القوى، واتجه إلى الكرسي الخيزران الذي يحبه، وجلس بلا حركة النهار كله. جلس محدقًا إلى الفراغ أمامه. ثم نهض فجأة وغاب في غرفته هُنيهة، ثم خرج حاملاً الراديو الصيني ذي الكشاف. وضعه على منضدة الشاي جواره. أدخل فيه شريحة ذاكرة كانت في الجيب العلوي لجلبابه. رفع الصوت، فصدحت أغاني شعبية حزينة لعبد الباسط حمودة وأحمد شيبة ومطربين لا أعرف لهم أسماء.. ثم تكرر هذا الوضع يوميًا.. يستيقظ، يتجه إلى كرسيه، يسمع أغانيه الكئيبة، وصمته يزداد يوما بعد يوم، والحزن لا يُفارق سحنته.
عندما دخلنا الغرفة، بعد أن رمقتنا أمي وهي ترقي أبي، ندت عن أخي الأصغر ابتسامة خبيثة وقال: “أبوك سيُجن قريبا.” كان أخي ميالا للدعابات السمجة. نهرته وأنا أشعر بالأسى على حال أبي الصول خميس. ألصقت أذني بالباب محاولاً التنصت، ولكن الباب انفتح فجأة.. دخلت أمي مطرقةً، جلست على حافة السرير. جلسنا على السرير المقابل وأخذنا نتفرس ملامحها الكابية مُترقبين حديثها:
– كما ترون، حالة أبيكم تسوء يوما بعد يوم.. هل هذا أبوكم الذي اعتاد الضحك والهزار معكم؟
صمتنا ولم نجيب.. فكرت في أن أبي لم يعتاد الضحك والهزار، ولكنها صدقت في قولها إن حالته تسوء. استطردت:
– أبوكم كان العمل هو كل حياته. أقصد أنتم كل حياته. حسنا.. أنتم والعمل. ولقد جاء التقاعد كضربة قاضية له.
– والحل. هل هناك حل؟
سألتها.
– هدانا الله، أنا وأبيكم، إلى فكرة. في الحقيقة، هي فكرتي وعرضتها عليه فوافق.
– وما هي؟
سألها أخي.
– تمثيلية بسيطة تُخرجه من حالته. سنمثل تمثيلية بسيطة لإسعاد أبيكم.
– كيف؟
قلت وأنا في غاية الحيرة.
توقفت أمي قليلاً، كأنها تستجمع شجاعة لم تتحلى بها يوما. ثم قالت بغتة، وبكلمات سريعة كطلقات بندقية:
– سنمثل أنكما مسجونان وأنه هو سجانكم. سيلبس ملابسه الرسمية ويدخلكم هذه الغرفة، ثم يغلق عليكم الباب -أشارت إلى الباب- كأنه سجن. مجرد تمثيلية بسيطة وسريعة..
رفعت عينها ناظرةً إلينا ولكنها لم تنتظر إجابة. فأردفت بلهجةٍ جازمة:
– أبوكم يحتاج مساعدتنا كلنا. كلنا مدينون له بحياتنا.
لم يكن أمامنا بعد هذه الجملة سوى الموافقة. ضحك أخي ثم نهض وطبع قبلة على جبين أمي. واكتفيت أنا بهز رأسي.
خرجت أمي ضاحكةً مُستبشرة. غابت دقائق ثم انفتح الباب عن أبي وهو يرتدي ملابسه الرسمية كاملة. أشار لنا بالنهوض من على السرير قائلا:
– انهضا يا أولاد الزنا واتبعاني. المحكمة تنتظركم يا أولاد الكلب.
نهضنا مبهوتين.. جذبنا من أيدينا إلى الردهة.. كانت أمي جالسة على الكنبة، ترتدي جلبابها الأسود. أشارت لنا إلى الحائط المقابل فاتجهنا إليه ووقفنا لصقه. نظرت إلينا ثم إلى أبي المنتصب على مقربة منها. ثم أغمضت عينيها تسترجع عبارة يبدو أنها اجتهدت في حفظها. فتحت فمها أخيرًا، وقالت في لغة بدت فصيحة:
– حكمت المحكمة على المتهمين: أحمد خميس وهاني خميس، بالسجن ثلاث سنوات مع الشُغل والنفاذ.
ثم نظرت إلى أبي الذي هز لها رأسه مستحسنًا. جمدت أمي لحظة كأنها تفكر، ثم أشارت إلى أبي وعلى وجهها ابتسامة صفراء:
– خذهم على السجن يا صول خميس.
ضرب أبي الأرض بحذائه ورفع يده إلى محاذة أذنه في تحية قائلا:
– تمام يا فندم!
ساقنا إلى غرفتنا دافعًا ظهورنا بعنف حتى كدنا أن نسقط على وجوهنا.. أغلق خلفنا الباب ثم سمعنا صوت المفتاح يدور في الباب ثلاث دورات كاملة..
بعدها سمعنا ضحكات أبي المسعورة المتواصلة، ونحيب أمي يأتي من بعيد.